في زاويةٍ مظلمة من الخرطوم، حيث تهتف الرصاصات في الليل وتنام على أصوات الانفجارات، كان هناك بيتٌ صغير يجمع عائلةً سودانية بسيطة. كان عبدالقادر النعيم، الأب الحنون لأربعة أبناء وأمهم "سمية"، يعيش معهم حياةً هادئة بعيداً عن السياسة والصراعات.
لكن الحرب لا تعرف الهدوء.
في ليلةٍ لم تكن ككل الليالي، سمعت الأسرة صوتَ انفجارٍ قوي، فاندفعت الشظية من نافذة المنزل لتستقر في جسد الأم، التي كانت تحضن طفلها الصغير الذي لا يتجاوز عامه الأول.
دموع على الأرض المحروقة
قال عبد القادر بكل حزن:
ـ "كانت سمية تبتسم رغم الألم، وتحتضن طفلي وتهمس له: 'لا تخف يا بُنيّ، كل شيء سيكون على ما يرام'. لكنها لم تتم كلمتها، فقد سقطت على الأرض، والدماء تغطي ثوبها."
حاول عبد القادر إنقاذها بكل ما أوتي من قوة، حملها بين ذراعيه وخرج إلى الشارع، لكنه وجد الموت يلاحقه من كل جانب. توجه إلى مستشفى، ثم آخر، ثم ثالث... حتى زار ثمانية مراكز صحية، لكن الجواب كان واحداً:
ـ "لا يوجد أدوات طبية، ولا أدوية، ولا مسعفين."
بعد ثماني ساعات من النزيف، رحلت سمية، تاركةً خلفها خمسة أطفال، وأباً يحمل وجعاً لا يوصف.
الأب.. والبحث عن الأمان
بعد أن استسلم للأمر الواقع، قرر عبد القادر الهروب من الخرطوم، ليس حباً في الرحيل، بل حباً في بقاء أولاده. استأجر سيارة، وجمع ما تبقى من أغراض العائلة، واتجه نحو مركز إيواء قريب.
لكن حتى هناك، لم يكن الوضع أفضل. كانت مراكز الإيواء تعاني من نقص شديد في الموارد، ومن دون طعامٍ كافٍ، أو ملابس دافئة، أو حتى ماءٍ نقي.
يقول عبد القادر:
ـ "أنا أخاف أن أفقد أحد أطفالي كما فقدت زوجتي. كل مرة يمرض فيها أحدهم، أشعر بأن التاريخ سيكرر نفسه."
وكل مساء، يغني عبد القادر لطفله الصغير، وهو ينظر إليه على الرمال، في محاولةٍ لتطمينه، وإبعاد الكوابيس عنه. لكن كيف يُبعد كابوساً يراه الطفل كل يوم؟ كيف يُنسيه صورة الدماء التي غطّت وجه أمه؟
أطفال الحرب.. ضحايا لا ذنب لهم
أطفال السودان، اليوم، يعيشون في ظروفٍ لا يمكن تخيلها. بعضهم فقد آباءهم، وبعضهم فقد أمهاتهم، وآخرون فقدوا كل شيء دفعة واحدة. وبدلاً من أن يذهبوا إلى المدرسة، يجلسون تحت الشمس، ينتظرون الطعام، أو يركبون سيارات الترحيل نحو المنفى.
في كل عين طفلٍ سوداني، هناك قصة حزن، وفي كل خطوةٍ صغيرة، هناك أملٌ يقاوم اليأس.
وقصة عبد القادر ليست استثناءً، فهي تُحكى الآن في آلاف البيوت السودانية، حيث يتحول الآباء إلى أمهات، والأمهات إلى ضحية، والأطفال إلى شهودٍ على جريمةٍ لا يعرفون من فعلها.
الخرطوم.. مدينة الأطفال المفقودين
إذا سألت أي شخصٍ في الخرطوم عن حال الأطفال، فسوف يجيبك بنبرةٍ مكسورة:
ـ "هم يعيشون بين الرعب والدموع، ويرتبطون بأصوات القذائف أكثر مما يرتبطون بأصوات الطيور."
هناك طفلة اسمها "فرح"، عمرها 9 سنوات، تعلّمت كيف تُداوي الجروح بعد أن فقدت أمها في قصفٍ عشوائي. وهناك طفلٌ يدعى "زيد"، لم يتجاوز الثامنة من عمره، ويبيع المياه في الشارع ليُطعم إخوته بعد أن فقد والده.
وهناك الصغير "أمير"، الذي لم يتجاوز العام، ينام كل ليلة على الرمال، ويدخل في نومٍ عميق بعد أن يسمع أبيه يهمس له:
ـ "أمي ستكون هنا غداً... ستكون هنا..."
رسالة من قلب الحرب
إلى العالم الذي يرى، ويعيش في أمان، وربما ينسى:
هل تتخيل أن تفقد زوجتك أمام عينيك، وأن تُجبر على مشاهدة دمائها تسيل على الأرض؟ هل تتخيل أن تكون أباً لخمسة أطفال، ولا تملك حتى ملجأ يحميهم من البرد؟
أطفال الحرب ليسوا مجرد أرقام، بل هم أرواحٌ بريئة، ومستقبلٌ يُسرق، وضحيةٌ تتمنى فقط أن تعود الحياة إلى طبيعتها.
خاتمة مؤلمة
قد تكون هذه القصة واحدة من آلاف القصص السودانية المؤلمة، لكن لكل قصة تأثيرها، ولكل كلمة تُكتب، بصمة. فلنرفع صوتنا، ولو بكتابة مثل هذه الكلمات، لنطالب بالسلام، وننقذ مستقبل أطفالٍ لم يولدوا ليُقتلوا، بل ليُحبوا، ويتعلموا، ويحلموا.
اشترك الآن، وشارك هذا المقال مع أصدقائك، واترك تعليقاً يحمل صوتاً من أجل السلام في السودان.
تهمنا تعليقاتكم المفيدة