الطـــارق للمعرفة و التطور الطـــارق للمعرفة و التطور
recent

آخر المقالات

recent
random
جاري التحميل ...

تهمنا تعليقاتكم المفيدة

الشابة – مدينة التاريخ العريق بين الموانئ والزوّار الصوفيين

📚 جدول محتوى المقال

  1. مقدمة أدبية عن مدينة الشابة وأهميتها التاريخية

  2. الموقع الجغرافي والقيمة الطبيعية

  3. رأس قبودية في العهد البونيقي: الميناء والمراقبة

  4. المدينة في العصر الروماني: ازدهار Caput Vada

  5. فترة الوندال والاضمحلال

  6. عودة الحياة في العصر البيزنطي: جوستينيانوبوليس

  7. مرحلة الصمت في العصور الإسلامية المبكّرة

  8. نشوء الزاوية الصوفية دور سيدي نعمون

  9. تأسيس الشابة وبدايات العمران المنظم

  10. البُنى العمرانية والتقسيم الحواري الثلاثي

  11. بناء الجامع الجديد بمبادرة الشيخ عليّ النوري

  12. معالم الشابة الأثرية: برج خديجة

  13. الطابع الاجتماعي والعشائري

  14. العائلات الأولى والوافدة وبناء النسيج السكّاني

  15. الهوية الثقافية والتاريخية والحفاظ عليها

  16. الشابة اليوم: تحديات التنمية والاقتصاد

  17. رؤية مستقبلية للحفاظ على الموروث وتنميته

  18. خاتمة أدبية ودعوة للإقبال على البحث عن الجذور

  19. الأسئلة الشائعة (FAQ)



1. مقدمة أدبية عن مدينة الشابة وأهميتها التاريخية

مدينة الشابة، أو "رأس قبودية" بلسان المؤرخين القدامى، ليست بالمدينة العادية. هي نسيج متشابك من قصص العبور، كما هي لوحة يغنّي فيها البحر تاريخًا وإنسانًا. تقع على شاطئ البحر المتوسط، جنوب المهدية بحوالي 35 كلم، لتكون حدًّا بين المشرق المغاربي وميناء كأيقونة حضارة. تتجسد فيها رحلة تونس التاريخية: من الحضارات البونيقية وصولًا إلى الرومانية، فباتت ساحة لتلاقح حضاري فريد. عليها مرّت قوافل التجّار، والسفن، والصوفيين، لتؤسس رقماً على خارطة المتوسط. نبدأ معًا رحلة في جغرافيا المكان والزمان، نستكشف فيها كيف تحوّلت هذه المدينة الصغيرة إلى مركز روحي، وثقافي، واجتماعي يمتد أثره حتى العصر الحديث.



2. الموقع الجغرافي والقيمة الطبيعية

تقع الشابة على ما يُعرف بـ"رأس قبودية"، رأس بحري يبرز طرفه في البحر كما لو أنّه مؤشر يشير إلى انفراج موج البحر. يمتاز هذا الرأس بتشكيلات صخرية ولّدها البحر عبر قرون طويلة؛ فيه تناغم بين الجروف، والرمال، وأمواج البحر التي تلتقي بأهداب البحر الصغير الممتد نحو جزيرة قرقنة. التضاريس الطبيعية المحيطة، من شواطئ مرصوفة بالحجارة ومدرجات صخرية، أعطت للمنطقة طابعًا قلّ نظيره، ولم تكن صدفة أن يرى البونيقيون هذا المكان موقعًا مثاليًا لميناء يراقب حركة ‏Thynoscoprium – سمك التونة. دخول البحّارة إلى هذا المرفأ وتردّدهم عبر القرون ربما سببه طبيعيًّا أكثر من كونه بشريّ: فتيارات البحر تنساب، والمياه العذبة تتكوّن من مياه المطر التي تنساب عبر الأنهار الصغيرة النازلة من الداخل. بهذا، يستمد رأس قبودية قوّته الطقسية والاقتصادية عبر موقعه الجغرافي الفريد.


3. رأس قبودية في العهد البونيقي: الميناء والمراقبة

قبل حوالي نصف قرن قبل الميلاد، وفي ذروة النشاط البونيقي التونسي، أنشأ البونيقيون هذه النقطة المميزة كجزء من شبكتهم البحرية. فقد كانوا يشيدون موانئ صغيرة على طول الساحل لتأمين تجارة التونة، وربط التجارة البينية عبر البحر المتوسط. الميناء البونيقي في رأس قبودية كان يتألّف من رصيف أخضر من الحجارة الطبيعية، وورشٍ لصيانة السفن وأخرىً لصيد الأسماك. يسرد سترابون، المؤرخ الجغرافي الروماني، كيف استغلّ السكان المحليون حركة المد والجزر لصيد "سمك التن" الغني، وأن هذه الحركة صارت نظامًا سنويًا يقود النشاط الاقتصادي. هنا ابتدأت نقطة عمرانية، بوسط محدّد ومرفأ وورشة ومحطة مراقبة بحريّة. نقطة انطلاق لحضارة ستشكل فيما بعد حجر الأساس لـ Caput Vada.


4. المدينة في العصر الروماني: ازدهار Caput Vada

بقدوم الرومان، تحوّل رأس قبودية إلى مركز تجاري استراتيجي تحت اسم Caput Vada — "الرأس القصير"، وذلك لكونه نقطة بداية البحر القصير الممتد نحو جزيرة قرقنة. استثمر الرومان الموقع؛ بنوا مرفأ أوسع، وسكّنوا المنطقة، وأقاموا ورش السفن، وخزّنوا الذخائر، وطوروا طرقًا تربط بينهم وبين المعاقل الداخلية. ازدهرت Caput Vada وتجذّرت عبر عقودٍ من الزمن، فصارت مدينة مزدهرة يعبرها التجّار، ويصطادون السمك، وينقلون البضائع من وإلى أفريقيا الرومانية. وقد ظلّ نشاطها البحري والتجاري يدور بانتظام، حتّى بدأ طمأنينها يتزعزع مع ظهور خطر الوندال.


5. فترة الوندال والاضمحلال

في القرن الخامس الميلادي، بدأت هجمات قاسية للوندال تصل لميادين السواحل شمال إفريقيا. هذه القبائل تأثّرت بجوعها وعطشها، وبدأت تفرض الهيمنة على المدن الساحلية. Caput Vada لم تسلم من هذه الهجمات: فتدمّرت أقسام من المرفأ، وفقدت المدينة كثيرًا من نشاطها البحري والتجاري، وسقط كثير من سكّانها. ما كان مزدهرًا انكفأ. الحالة لم تتحسن إلا بعد فترة من الاستقرار، لكن قليل من البنيان والرواج البحري عاد، لأن الطريق الجديدة غدت في داخل البلاد.


6. عودة الحياة في العصر البيزنطي: جوستينيانوبوليس

لم يكن خراب المدينة على يد الوندال نهاية القصة، بل كان تمهيدًا لفصل جديد كتبه التاريخ البيزنطي. سنة 533 ميلادية، أرسل الإمبراطور جستينيان قائده الشهير بيليزار في حملة لاستعادة شمال إفريقيا من قبضة الوندال، وبعد معارك بحرية وبرية ضارية، رست سفنه عند رأس قبودية. في هذا الرأس، المتهالك بفعل الغزو، أمر القائد بيليزار بترميم المدينة الرومانية القديمة، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية بيزنطية استراتيجية، فبُنيت القلعة، وسُمّيت المدينة الجديدةجوستينيانوبوليس(Justinianopolis)، تخليداً للحدث التاريخي وللإمبراطور نفسه.

لكن، رغم التحصينات والجهد البيزنطي، لم تتمكن المدينة من استعادة بريقها السابق. لم تدم الهيمنة البيزنطية طويلًا، فسرعان ما بدأت علامات الانكماش تعود. انتقل النشاط إلى داخل البلاد، وبدأت السواحل تفقد مركزيتها العسكرية والتجارية، خاصة مع تزايد أخطار الغزاة المسيحيين وتهديدات البحر غير المروّضة.


7. مرحلة الصمت في العصور الإسلامية المبكّرة

حين دخلت القوات الإسلامية إفريقية، كانت منطقة رأس قبودية على هامش الأولويات الاستراتيجية. لا تُذكر في المصادر إلا قليلاً، وتحت تسميات مثل "قصر قبودية" أو "بلد قبودية". استمر التهميش، وتحولت المدينة القديمة إلى مجرد أثر على الخريطة، تعصف بها الرياح، وتتلاعب بها رطوبة البحر.

السبب الرئيسي في هذا التراجع هو الخوف المستمر من غزوات القراصنة والصليبيين الذين جابوا البحر، وهاجموا الموانئ والقرى الساحلية. استشعر السكان الخطر، فبدأوا في النزوح نحو الداخل، وتركوا السواحل مكشوفة، خالية من الحركة والعمران. السلطة المركزية، آنذاك – خاصة الحفصية – لم تكن قادرة على حماية الأطراف، ولا على تحفيز الناس للعودة إلى السواحل. فكان أن نشأت حركات دينية بديلة تقوم بدور السلطة: تحمي، تؤمّن، وتعلّم.


8. نشوء الزاوية الصوفية ودور سيدي نعمون

في أواخر القرن الخامس عشر، وصل إلى المنطقة الوليّ الصوفيسيدي نعمون، ذو الأصل الأندلسي. لم يكن مجرد زاهد عابر؛ بل كان شخصية كارزمية امتلكت من التأثير ما جعلها تجمع حولها النازحين والخائفين من البحر. سيدي نعمون قرأ المشهد ببصيرته، فأسّس زاوية لا تبعد أكثر من أربعة كيلومترات عن الساحل، في موقع داخلي يوفر الحماية، لكنه يبقي العين على البحر.

الزاوية لم تكن فقط معلمًا روحيًا؛ بل تحوّلت إلى مركز متكامل: مصلى، وسوق، ومركز تعليم، ونقطة تعبئة اجتماعية ودينية. وبهذا، أصبحت الزاوية محور نشأة المدينة الجديدة. حولها التف الناس، ومنها انطلقت شرارة العمران. حتى اسم "الشابة" قيل أن سيدي نعمون هو من أطلقه على هذا التجمع الجديد، ربما استعارةً من حيوية المكان الجديد مقارنة بشيخوخة المدينة القديمة.


9. تأسيس الشابة وبدايات العمران المنظم

من زاوية صغيرة ومصلى منعزل، بدأت الشابة تنمو. أول ما بني بعد الزاوية كان المقبرة، فالمسجد، ثم السوق، فالحمام، ثم معاصر الزيتون. ومع الوقت، بدأت تتفرع "الدروب" من البطحاء الرئيسية، وهي الساحة التي كانت قبالة مقام سيدي نعمون. كل طريق كان يحمل في ثناياه قصة عائلة، أو فرع من فروع العشائر المستوطنة. ومن بين أول من استقرّوا كان أفراد من قبائلهذيل، العريقة، التي كانت لها إقطاعات في المنطقة منذ العصر الزيري.

مع الوقت، جاء إليها الوافدون من الجنوب، ومن الداخل، ومن قرى الساحل المجاورة. وتوسّعت النواة السكانية، فانتقلت المدينة من كونها مجرد نقطة عبور أو زاوية صوفية إلى مدينة تنبض بعوامل الحياة، وتحمل طابعًا عمرانيًا تدريجيًا.


10. البُنى العمرانية والتقسيم الحواري الثلاثي

ما يُميز مدينة الشابة ليس فقط تاريخها العميق، بل تقسيمها الداخلي الذي يعكس وحدتها وتنوعها. تنقسم المدينة إلى ثلاث "حُوَم" أساسية – الحيّ الشعبي القديم:

10.1 حومة البحّارة (الحومة الشرقية)

وتتكوّن من "البراجة" و"الشرفة"، وهي قريبة من البحر، لذا حملت دومًا الطابع البحري. هنا عاش أحفاد خديجة، "أم القراصنة"، وتكوّن حي من الأسر المرتبطة بالبحر: صيادون، حراّس الميناء، ملاّحون. لهذه الحومة نكهتها الخاصة، مزيج من ملوحة البحر وملامح الصيادين.

10.2 حومة وسط البلد

وهي النواة الأصلية التي نبتت حول زاوية سيدي نعمون، ومركز الحياة الروحية والدينية والاجتماعية. من العائلات التي استقرت هنا نذكر عائلة "سلامة"، وهي التي تشرف حتى اليوم على زاوية سيدي بن عيسى. في هذه الحومة تجد المدرسة، المسجد، السوق، والساحة التي تتفرع منها كل الدروب.

10.3 حومة المثاليث

وتُعرف أيضًا بـ"حي الوهّاب" نسبة إلى سيدي عبد الوهاب، وهي واقعة جنوب المدينة، بالقرب من الطريق المؤدي إلى صفاقس. تمثل هذه الحومة رمزًا للاندماج العشائري، حيث استقرّت قبائل المثاليث عبر"المغارسة"، وتركوا أثرهم في الفلاحة، والنسيج الاجتماعي، والبنية الأسرية للشابة.


11. بناء الجامع الجديد بمبادرة الشيخ عليّ النوري

مع تزايد عدد السكان في الشابة، لم يعد المسجد الأول الذي بُني في وسط البلدة قادرًا على استيعاب المصلين، خاصة خلال المناسبات الدينية الكبرى. من هنا، برزت الحاجة إلى جامع جامع، يضمّ كل الأحياء الثلاثة ويشكّل نقطة التقاء روحي. وفي هذا السياق، برز اسمالشيخ عليّ النوري الصفاقسي، العالم الجليل الذي عاش في القرن السابع عشر، وتوفي سنة 1706م.

جاء الشيخ عليّ النوري بفكر إصلاحي ديني وروحي، وعُرف بعلاقته الوطيدة بعلماء الزيتونة والمتصوفة. وبتأثيره وماله وعلاقاته، تم بناء الجامع الجديد على أنقاض المسجد الأول، وسُمي باسمه تخليداً لمبادراته.

هذا الجامع الجديد لم يكن مجرد معمار من الطين والحجر؛ بل كان مدرسة فكرية، ومحوراً اجتماعياً، وصوتاً للهوية الإسلامية – الصوفية المعتدلة التي ميزت الشابة. تطلعت المآذن إلى السماء، وانطلقت الدروس، وتجمّع الناس في باحته كما كانوا يتجمّعون حول مقام سيدي نعمون، ليُكمل الجامع رسالة الزاوية.


12. معالم الشابة الأثرية: برج خديجة

من بين أبرز المعالم التي اختزلت تاريخ الشابة، يبرزبرج خديجة. برج مراقبة قديم مشيّد على أنقاض القلعة البيزنطية، يرمز إلى تقاطع الأساطير والحقيقة. البعض يرى أن تسميته تعود إلىالشاعرة خدوج الرصفيةمن القرن العاشر الميلادي، لكن الأرجح تاريخياً، أن البرج نُسب إلى امرأة محلية تُدعىخديجة، عاشت نهاية القرن الثامن عشر.

في تقرير صدر سنة 1884 عن رئيس قسم الإرشادات الفرنسي "Signé Jamy"، وُثّق أن خديجة كانت تقيم في هذا البرج مع أبنائها – الذين شكّلوا لاحقًا عرشالبراجة. كانت هذه المرأة تشرف على إصلاح البرج، وحمايته، وتنظيم أمور الصيادين والقرصان. لذا، سُميت بـ"أم القراصنة"، وهي من الألقاب التي توحي بأن المرأة في الشابة لم تكن بعيدة عن مراكز النفوذ، حتى في مجتمع تقليدي.

البرج، في هندسته، بسيط لكنه مهيب. يطل على البحر من علوّ يُتيح المراقبة الدقيقة. كان يستخدم كمنارة، كبرج دفاع، وكمخزن أحيانًا. وتحكي جدرانه مشاهد غزوات، ولقاءات، وسهرات على نار القراصنة.


13. الطابع الاجتماعي والعشائري

ما يميز الشابة عن غيرها من مدن الساحل التونسي، ليس فقط بنيتها الجغرافية، بل أيضًا تشكلها العشائري والاجتماعي. فعلى خلاف المدن الحديثة، الشابة حافظت على نسيج عشائري واضح المعالم، يجمع بين الانتماء للأرض والولاء للعائلات والفرق.

هذه البنية الاجتماعية كانت لها فوائد جمّة: فالعائلات الكبرى وفّرت الأمن، والزوايا مثّلت السلطة الدينية، والسوق كان خاضعًا للتنظيم المجتمعي. لم يكن هناك جهاز دولة مركزي، بل مؤسسات أهلية متماسكة: الشيخ، الإمام، الصياد، المعلم، وعمدة الحومة.

وكل عائلة كانت تمثل قطعة من الفسيفساء الكبيرة: من البلدية إلى البراجة إلى المثاليث، يندمج كل عنصر دون أن يذوب، وبهذا، تولدت هوية شابية متجانسة لكنها متعددة.


14. العائلات الأولى والوافدة وبناء النسيج السكّاني

في بداية القرن العشرين، دوّنت إحدى الوثائق النادرة أسماء العائلات التي شكّلت النسيج السكاني في الشابة. ووفقًا لهذه الوثيقة، فإن أول من استوطن المنطقة هم قبائلهذيل، من أصول عربية، كانت لهم إقطاعات منذ العصر الزيري. ثم، توافدت عائلات عديدة من قرى الساحل والمدن التونسية الأخرى، وحتى من خارج البلاد.

أهم الفروع العائلية في الشابة تشمل:

  • البلدية: هم الفريق الأول المحيط بمقام سيدي نعمون، ومن أبرز عائلاتهم: التباب، الهيلي، النزيم، الصغير، القصار، بو عبد الله.

  • البراجة: ينحدرون من خديجة، وتفرعوا إلى أولاد بلقاسم، مبروك، حميدة، رحومة.

  • المثاليث: استقروا جنوب المدينة قرب طريق صفاقس، ومن عائلاتهم: سيدهم، بن منصور، النصري، حديوش، المرغلي.

  • الوافدون: شملوا عائلات من الجم، قصر هلال، صفاقس، المنستير، قرقنة، المطوية، وحتى من ليبيا والجزائر مثل الجربي، الحاج سعد المسراتي، وماني.

كل هذه العائلات، رغم اختلاف أصولها، اندمجت عبر المصاهرة، والتجارة، والعمل، والعبادة، ليُكوّنوا ما يعرف اليوم بـ"الشابة الحديثة".


15. الهوية الثقافية والتاريخية والحفاظ عليها

الشابة ليست مجرد اسم على الخريطة؛ بل هي نموذج حيّ لصمود الذاكرة الجماعية. الهوية هنا ليست شيئًا تجريديًا، بل ملموسة في الأزقة، في مآذن الجوامع، في الحكايات التي تروى عند المقاهي، وفي أسماء العائلات التي تتكرر منذ قرون.

ومع أن التمدّن الحديث فرض إيقاعه، إلا أن المدينة قاومت الذوبان في "الحداثة القاتلة". ما زالت الزوايا فاعلة، والعائلات العريقة تحفظ الأنساب، والأسواق تنبض بلهجة محلية تحمل رائحة البحر والتاريخ.

لكن التحديات قائمة: من الإهمال الرسمي، إلى ضعف الاستثمار، إلى هجرة الشباب نحو المدن الكبرى. تحتاج الشابة إلى مشروع نهضة يحفظ تراثها، ويعيد رسم صورتها، لا كقرية منسية، بل كمدينة ذات مكانة في سجل حضارة المتوسط.


16. الشابة اليوم: تحديات التنمية والاقتصاد

الشابة اليوم، مدينة تقف على مفترق الطرق. ما بين ماضٍ ثقيل بثقافته وتاريخه، وحاضرٍ يفرض شروطه الاقتصادية والاجتماعية القاسية. رغم التطور العمراني الظاهري، لا تزال المدينة تعاني من غياب الاستثمار الحقيقي في بنيتها التحتية ومرافقها الحيوية.


يعتمد جزء كبير من السكان على الصيد البحري، وهو موروث قديم منذ أيام البونيقيين والرومان. إلا أن هذا القطاع لم يعرف تحديثًا شاملاً، فالسفن لا تزال بدائية نسبيًا، والموانئ تفتقر إلى الخدمات. كما أن الفلاحة محدودة بطبيعة الأرض، والسياحة الثقافية والتاريخية غير مستغلة، رغم وجود برج خديجة وزاوية سيدي نعمون كمعالم يمكن إدراجها في المسارات السياحية التونسية.

في الجانب الاجتماعي، هناك ضغط متزايد نتيجة البطالة، وهجرة الكفاءات، وتراجع عدد سكان المدينة مقارنة بالماضي. يضاف إلى ذلك التدهور البيئي على السواحل، بسبب التغيرات المناخية وقلة الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة الساحلية.

كل هذه المعطيات تجعل من الشابة مدينة ذات طاقة كامنة غير مفعلة، تحتاج فقط إلى رؤية تنموية شاملة، تربط بين التراث والمستقبل، وتُشرك المجتمع المحلي في صناعة مصيره.


17. رؤية مستقبلية للحفاظ على الموروث وتنميته

لكي تتجاوز الشابة عثراتها وتستعيد مجدها، فإن الحل لا يكمن فقط في استحضار الماضي، بل في استثماره بعقلانية. يجب أن تصبح المدينةمركزًا للتراث البحري والمتوسطي، من خلال إنشاء متحف بحري يُعيد رسم تاريخ Caput Vada، وتنظيم مهرجانات سنوية تستلهم روح الصيد، والشعر، والصوفية.

كما يمكن تحويل برج خديجة إلى مركز ثقافي وسياحي مزود بمرافق للعرض التفاعلي، وجعله نقطة استقطاب للزوار. أما زاوية سيدي نعمون، فبإمكانها أن تُبعث من جديد كمركز للتربية الروحية والفكرية، مع برامج ثقافية تربط الشباب بجذورهم.



لا بد من دعم الصناعات التقليدية، من النسيج إلى الصابون إلى المأكولات البحرية، وربطها بالأسواق المحلية والعالمية عبر التجارة الإلكترونية. كل هذا يتطلب شراكة بين البلدية، المجتمع المدني، الدولة، والمستثمرين.

الرؤية يجب أن تكون شاملة: تراث، تنمية، بيئة، وتعليم. وبهذا، تتحول الشابة من هامش إلى مركز، ومن مدينة نائمة إلى عاصمة روحية وثقافية.


18. خاتمة أدبية ودعوة للإقبال على البحث عن الجذور

الشابة، أو رأس قبودية، ليست مجرّد مدينة ساحلية؛ إنها رواية مفتوحة على قرون من البحر، والدين، والتاريخ، والإنسان. هي البنت البكر لحضارات قديمة، والمحضن الآمن لأرواح صوفية هاجرت بحثًا عن السلام. في أزقتها، تسكن الحكايات. على شواطئها، تنام السفن القديمة. وفي وجوه شيوخها، ينعكس الزمن الطويل كمرآة من ذهب معتّق.

العودة إلى الشابة ليست حنينًا فقط، بل مسؤولية. مسؤولية من يريد أن يفهم تونس بعمق، لا من شاشات الأخبار، بل من حروف الرمل، ومن حِكم الزوايا، ومن عيون البحّارة.

افتحوا كتب التاريخ، تجوّلوا في خرائط الحضارات، وانظروا حيث تبدأ القصص ولا تنتهي... هناك، في الشابة، حيث الزمن يُغني.


الأسئلة الشائعة حول الشابة – رأس قبودية

1. ما هو أصل اسم "الشابة"؟

الاسم يعود إلى الولي الصوفي سيدي نعمون، الذي أسّس التجمع السكني الجديد في القرن 15 وأطلق عليه هذا الاسم. وقد يكون إشارة إلى الحيوية والتجدد مقارنة بالمدينة القديمة.

2. ما العلاقة بين الشابة وCaput Vada الرومانية؟

Caput Vada هو الاسم الروماني لرأس قبودية، موقع استراتيجي استخدمه الرومان كميناء عسكري وتجاري هام، ويمثّل جذور الشابة القديمة.

3. من هي خديجة التي نُسب إليها برج خديجة؟

هي امرأة محلية من القرن 18 كانت تقيم في البرج مع أبنائها، تُشرف على نشاط القرصنة والصيد، وسميت بـ"أم القراصنة"، ومن ذريتها جاء البراجة.

4. من هم أهم العائلات المؤسسة للشابة؟

أبرزها: عائلات البلدية (مثل التباب، الهيلي)، البراجة (مثل كيتار، صياد)، المثاليث (مثل بن منصور، المرغلي)، والعديد من العائلات الوافدة من قرقنة، ليبيا، صفاقس وغيرها.


5. ما أبرز معالم الشابة اليوم؟

زاوية سيدي نعمون، برج خديجة، الجامع الكبير الذي أسّسه الشيخ علي النوري، الأسواق القديمة، وميناء الصيد.


سؤال للنقاش في التعليقات

ما الذي يمكن أن تفعله للحفاظ على تراث مدينتك أو قريتك؟ وهل ترى أن على الشباب اليوم العودة للجذور؟


💬 شارك المقال مع أصدقائك، اكتب رأيك في التعليقات، ولا تنسَالاشتراك لمزيد من المقالات الممتعة والعميقة.

✅يرجى عدم نسيان ترك تعليق وتقييم للمقال.



عن الكاتب

Med Tarek KANOUN

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الطـــارق للمعرفة و التطور