في زاوية صغيرة من حيّ الزيتون العتيق، حيث تتشابك أغصانُ الزيتون وتهمس الحجارة بقصص الآباء، كان "كَرَم" يَجلسُ على سجّادة قديمةٍ قرب نافذته المفتوحة، يصنعُ بيديه الصغيرتين طائرةً ورقيةً حمراء.
البداية: بيتٌ لا يشبه البيوت
في بيتٍ مقدسيٍّ بسيط، جدرانُه تتشقّق تحت ضوء الشمس، وتزيّنه صورٌ لأقارب غابوا منذ زمن، كانت الطفولةُ تقرع أبواب كرم كل صباح. لم يكن بيتهم كبيرًا، لكنه كان واسعًا بحبّ أمه ورائحة الخبز الطازج، وغرفة كرم الصغيرة كانت عالمًا بحدِّ ذاته.
على الطاولة الخشبية، وضع كرمُ أعوادَ القصب، وورقةً حمراءَ لامعة، وخيطًا طويلًا سرقَه من بكرة قديمة. أراد أن يُحلّق. لا بالطائرة فقط، بل بكلّ ما فيه.
حيّ الزيتون: الشارعُ الذي يحفظُ الأسرار
كان كرم يحبُّ المشيَ في شارعهم المُبلّط بالحجارة القديمة. الأشجارُ تعرفه، والقططُ تُحدّثه بلغةٍ خاصة. في كل زاويةٍ ذكرى، وفي كلِّ ركنٍ ظلُّ شهيد. "كلّ ما في القدس يشبهني"، قالها مرّة لأخته، ثم أطلق ضحكةً فيها من الحزن أكثر مما فيها من الفرح.
القدس... لستُ وحدي هنا
وقفَ كرم على سطح بيتهم، ينظر إلى القبة الذهبية تُشعّ كأنها تناديه. رفع طائرته الحمراء نحو السماء، وقال: "أنا هنا". لم تكن مجرّد كلمات، بل إعلانُ وجودٍ، وصوتُ طفلٍ يُريد أن يُرى ويُسمَع.
"أنا في القدس، وفي قلبي ألفُ صوتٍ ينادي"، تمتم وهو يرى طائرته ترقص في السماء.
فلسطين: الأرض التي تحملُ أحلام الأطفال
كرم لم يكن وحده. في نابلس، في غزة، في جنين، في الخليل... أطفالٌ كثيرون يُصنعون الطائرات من الورق ويُحمّلونها رسائلَ حبٍّ ومقاومة. فلسطين كلها كانت تسكنُ خيطًا صغيرًا في يد كرم، يمتدّ من القدس إلى كلّ طفلٍ يشبهه.
"أنا هنا، وأنتَ أيضًا هنا... حتى لو باعدتنا الحدود"، كتبها على جناح الطائرة.
إلى العرب: نحن بعضُكم
أدارَ كرمُ وجهه صوب الجنوب. في المدرسة، تعلّم أسماءَ العواصم العربية، وكان يحفظها كما يحفظ أسماء إخوته. "بيروت، دمشق، عمّان، القاهرة..." كلها أماكنُ يعرفها بخريطةٍ صغيرةٍ علقها على حائطه.
"ألسنا إخوة؟" سأل نفسه، ثم أجاب: "نحن متشابهون، نلعب نفس الألعاب، ونحب نفس الأطعمة، ونضحك لنفس النكات".
الكون... وتقبّل الاختلاف
في كتابٍ مُلوّن عن الفضاء، قرأ كرم عن كواكبَ بعيدةٍ وسُكّانٍ خياليين. لم يخَف من اختلافهم، بل أحبّهم. "التنوعُ جميل"، قالت له معلمته، فحفظ الجملة كأنها نشيد.
"إن اختلفتُ عنك في اللون، أو الدين، أو اللغة، فلا يعني أنني لستُ من هذا العالم"، كتبها على ذيل الطائرة، وابتسم.
المشهد الختامي: "أنا هنا"
في غروبٍ مقدسيٍّ ناعم، ارتفعت الطائرة الحمراء أكثر فأكثر، والحيّ كله ينظر. عجوزٌ في الشرفة قال: "الله يحميك يا بني"، وأمٌّ أوقفت أطفالها لتُريهم "الحُلمَ الطائر".
"أنا هنا"، قال كرم بصوتٍ مملوءٍ بالحياة، وكأنّه يقول للعالم كلّه: أنا طفلٌ من القدس، أحبُّ، وأحلم، وأتقبّل. أنا من هذا المكان... وأنا هنا.
تهمنا تعليقاتكم المفيدة